21/04/2023 - 14:45

بورخيس في بيته | ترجمة

بورخيس في بيته | ترجمة

الكاتب الأرجنتينيّ خورخي لويس بورخيس (1899 - 1986)

 

من المقالات الّتي كتبها الروائيّ العالميّ بارغاس يوسا، بعد مقابلة أجراها مع الكاتب الأرجنتينيّ خورخي لويس بورخيس (1899 - 1986) في عام 1981، وأعاد الكاتب البيرونيّ نشرها في كتاب «نصف قرن مع بورخيس»، الّذي صدر في إسبانيا في عام 2020، وهو من سلسلة الكتب النقديّة الّتي صدرت مؤخّرًا لـيوسا، الّذي عُرِف، بداية حياته الأدبيّة، ناقدًا أدبيًّا، إلّا أنّ شهرته تجلّت في كتاباته الروائيّة المختلفة. ترجمها إلى العربيّة حسني مليطات. 

 


 

الكاتب في عزلته

يعيش بورخيس في بيت صغير مكوّن من غرفتَي نوم وغرفة طعام صغيرة. بيته في وسط مدينة بوينس آيرس، ويسكن معه قطّ أطلق عليه اسم ’بيبّو‘ - تيمّنًا باسم قطّ اللورد بايرون - وخادمة من سالتا، تطبخ وتنظّف، وتعمل أيضًا دليلًا للكاتب الأعمى. أثاث بيته قليل، ويظهر عليه علامات البلى، والرطوبة تطبع هالات مظلمة على الجدران. يُلاحَظ وجود ثقب فوق طاولة الطعام. أمّا غرفة نوم والدته، الّتي عاش معها فترات مهمّة من حياته، فسليمة، ولم تُصَب بأيّ أذًى، حتّى أنّ فستانها الأرجوانيّ ما زال ملقًى على السرير، ومهيّأ للارتداء. إلّا أنّ السيّدة ماتت منذ سنوات عدّة. ولذلك، عندما سألته عن أكثر الأشخاص الّذين أثاروا إعجابه، كانت والدته مَنْ يتصدّر الإجابة دائمًا.

أمّا غرفة نومه فتبدو مثل زنزانة: بسيطة وضيّقة، تضمّ سريرًا خفيفًا هشًّا مثل سرير طفل، ورفوفًا مكتظّة بالكتب الأنجلوساكسونيّة، وعلى الجدران الباهتة، يُلاحَظ مجسّم نمر مصنوع من السيراميك الأزرق، وأشجار نخيل مرسومة على ظهره، بالإضافة إلى وسام «شمس البيرو» الّذي تقلّده يومًا: إنّه حيوان بورخيسيّ بامتياز، عاد ليسكن في قصصه وقصائده، لكن لماذا تلك الميّزة البيرونيّة موجودة هناك؟ إنّها عبارة عن شيء وجدانيّ. تقلّد أحد أسلافه - الكولونيل المشهور سواريث - ذلك الوسام مدّة قرن ونصف لمشاركته في معركة جونين، محمَّلًا بالرمح والسيف ضدّ الإسبان. بعد ذلك، ضاع الوسام في حوادث ومغامرات أنساله وذريّته. وعندما منحوا بورخيس ذلك الوسام في ليما، بكت أُمّه متأثّرة، وقالت له: "لقد عاد هذا الوسام إلى العائلة مرّة أخرى". ولهذا السبب؛ عُلِّق أسفل النمر المتعدّد الألوان.

لم يكن في البيت الكثير من الكتب لتوحي بأنّ هذا هو بيت بورخيس. بغضّ النظر عن الكتب الموجودة في غرفة النوم، وعن الرفّين الموجودين على زاوية غرفة الطعام، المتضمّنين: كتبًا في الأدب والفلسفة والتاريخ والدين، الموجودة بلغات مختلفة. إلّا أنّ المرء سيبحث دون جدوى بين هذه المجلّدات عن كتاب لبورخيس، أو كتاب عن بورخيس. على الرغم من أنّني أعرف جيّدًا إجابته، إلّا أنّني سألته: لماذا استبعدت هذه الكتب من مكتبتك؟ فردّ قائلًا: "من أنا لأزاحم شكسبير أو شوبنهاور؟". ولا يوجد في بيته كتب عنه؛ لأنّ "الموضوع لا يهمّه". ومع ذلك، فقد قرأ أوّل كتاب خُصِّص له في عام 1955 للكاتبين: مارثيال تامايو وأدولفو رويث دياث، الّذي كان عنوانه: «بورخيس: اللغز والمفتاح». لقد قرأه لأنّه "يعرف اللغز، وكان لديه فضول لمعرفة المفتاح". إلّا أنّ هذا الكتاب لم يُشبع فضوله.

يرتدي بورخيس ملابسه بشكل أنيق ومرتّب، وأجزم بأنّه كان يضع ربطة العنق ويرتدي الجاكيت، حتّى وإن لم يخرج من البيت. فقدَ بورخيس نظره منذ ثلاثين عامًا، ومنذ ذلك الوقت، وهم يقرؤون له، وتحديدًا أخته نورا، وبعض أصدقائه الّذين يزورونه بين فترة وأخرى. يتميّز بورخيس بتسامحه الشديد مع وفود الصحافيّين الّذين يأتون إليه من كلّ حدب وصوب لإجراء مقابلات معه، فكان يستقبلهم بتورياته وردوده التهكّميّة الّتي يُسيئون عادةً فهمها. ومقابل الخدمات الّتي يقدّمها، يطلب أن يُقْرَأ عليه قصيدة لــ ’لوجونس‘ أو قصّة لــ ’كبلينغ‘. وبسبب ضعف بصره، بدأ بجمع العصيّ الّتي تدلّه على المسار الّذي يريده، فلديه الكثير منها، وتأتيه من بلدان مختلفة وغريبة، مثل كتبه وحكاياته.

 

الشخصيّة الجدليّة في السياسة والأدب 

ثمّ إنّ تواضعه وعاداته الحسنة عبارة عن ’مرجعيّة أدبيّة‘، أكثر من كونها ميّزة أو فضيلة، فبينه وبين نفسه، يعرف جيّدًا أنّه عبقريّ، على الرغم من أنّ تلك الأشياء، بالنسبة إلى متشكّك مثله، ليست ذات أهمّيّة. ووراء دماثة العجوز الّتي يُظهرها لزوّاره، وبينما يتجوّل داخل شقّته الصغيرة، يتربّص لعالم العبارات المخيفة الّتي لا تُقْهَر، يقول: "أنا على يقين بأنّ الترجمات الّتي قام بها نورمان توماس دي جيوافاني أفضل من الأصل. وهو على يقين بذلك أيضًا". لكن في الحقيقة، فإنّ بعض أحكامه خُفِّفت؛ إذ تحدّث بشكل جيّد عن نيرودا، على سبيل المثال، الكاتب الّذي بالكاد كان يُقَدَّر عمله من قبل؛ فهو يتذكّر بامتنان، عندما سألوا الشاعر التشيليّ في ستوكهولم: إلى مَنَ ستُمْنَح «جائزة نوبل»؟ قال: "إلى بورخيس". وبالمناسبة، لماذا لم يمنحك الأكاديميّون السويديّون هذه الجائزة؟ فكانت الإجابة متوقَّعة: "لأنّ أولئك السادة يتقاسمون معي الرأي نفسه حول أعمالي".

أذكر أنّني قبل عشرين عامًا تقريبًا، أجريت معه مقابلة لراديو وتلفزيون فرنسيّ، وسألته حينذاك عن رأيه في السياسة، فقال لي بأنّها "تسبّب له الضجر. هل هذه الإجابة واضحة؟ حسنًا، فبدلًا من كلمة الضجر، يمكنني أن أقول الآن بأنّها تسبّب النفور والاشمئزاز". إنّ السياسيّين ليسوا من الأشخاص المفضّلين لديك. "كيف تُعْجَب بالأشخاص الّذين يقضون حياتهم في عقد الاتّفاقيّات و’باعتذارات‘ يتراجعون عنها؟". ومع ذلك، فإنّ بورخيس كثيرًا ما يدلي بتصريحات سياسيّة تثير زوبعة من الاحتجاجات. وحتّى وقت قريب، كانت تلك التصريحات تثير، بشكل أساسيّ، غضب اليسار. لكن في هذه الأيّام، فإنّ من يصرخ بأعلى صوته بما يقوله بورخيس هو اليمين. إنّ يوميّات الكاتب الأرجنتينيّ مليئة بالاحتجاجات ضدّه. ويتّهمونه بالخرف، وبأنّه ضدّ مصالح الوطن، وذلك لأنّه عبّر عن تضامنه مع تشيلي حول قضيّة قناة بيجيل، ولأنّه طالب العسكر بالانسحاب من الحكومة، "معتبرًا أنّ قضاء حياة القادة في الثكنات العسكريّة لا يمنحهم القدرة على الحكم". لكن ربّما أكثر ما هو فاضح قوله بأنّ "الجيش الأرجنتينيّ لم يسمع صوت دويّ الرصاص". مثل جنرال يدحض ذلك الفعل، مستشهدًا بمثال، صحّحه بورخيس بالقول: "أعترف بأنّ الجنرال فُلان سمع دويّ الرصاص". وقد وصل إلى هذه المكانة على اعتبار أنّه هو نفسه مَنْ يستطيع أن يتحدّث بما يريد، وأن يُسمع صوته من دون لوم أو اعتقال أو حتّى اغتيال.

أودّ أن أقول لحضرتك، على الرغم من أنّني، في بعض الأحيان، أشعر بالحيرة؛ بسبب آرائك السياسيّة، إلّا أنّ ثمّة شيئًا ما يتّسم بالثبات، فكنت دائمًا أحترم رأيك، وأقصد بالطبع: خطبك ضدّ القوميّة، على اختلاف أنواعها. أحَضرتك تدرك ما أقوله؟ أليس كذلك؟ فأنا لديّ انطباع بأنّ ذلك كلّه مجرّد صدفة. لا يتحدّث إلى مُحاور بعينه، إلى ذلك الشخص من لحم ودم، الواقف أمامه، الّذي ينبغي أن يكون ظلًّا له، بل يتحدّث إلى مستمع مجرّد ومتعدّد الأحزاب والرؤى - ذلك هو القارئ الّذي يكتب من أجله - ومَنْ هو بجانبه، ويشعر بأنّه مجرّد حجّة، حيويّ ومجهول الاسم. إنّه حديث بذلك الحوار المتواصل، الّذي ينمّ عن سعة الاطّلاع وجماليّات الخطاب، وذلك ما يمثّل محادثة بالنسبة إليه.

 

العجوز المراوغ في هيئة الكاتب العظيم

تظهر المعلومات السابق ذكرها في ذلك الخطاب الّذي، للحظات، سيصبح عبارة عن خطاب تمثيليّ؛ لأنّ صوته بدأ يتقطّع، ويظهر على ملامح وجهه التوتّر والتجهّم. ما زال يواصل دراسته للغة الفايكنج القديمة ’اللغة النورديّة‘، وللأساطير الإسكندنافيّة الّتي كانت شائعة في القرن الثالث عشر، تلك الموادّ الّتي يمكن للأيسلنديّين قراءتها بنصّها الأصليّ، وبكيفيّة معيّنة يستطيعون من خلالها فهم المقروء. لذلك دمعت عيناه عندما وصل إلى مدينة ريكيافيك. كان بورخيس مثل والده، فوضويًّا سبنسريًّا، إلّا أنّه الآن أصبح من دُعاة السلام مثل غاندي وبرتراند راسل. ومع ذلك، فهو يشكّ في أنّ الفوضويّة أو الديمقراطيّة لن تصل بيننا أبدًا، فهل نستحقّها فعلًا؟ فأفضل مساهمة ثقافيّة في أمريكا اللاتينيّة هي الحداثة، ووجود شيئين لصالح الأرجنتين، هما: الطبقة الوسطى الكبيرة والهجرة الوافدة. وما زال بورخيس يعتقد بأنّ كتاب «تاريخ الأدب الأرجنتينيّ» لريكاردو روخاس، أعظم من كلّ الأدب الأرجنتينيّ "حتّى لو كان هذا العمل يُعَدّ جزءًا من ذلك الأدب". ثمّة دولتان يحبّ بورخيس معرفتهما، هما: الصين والهند. لا يخشى الموت، بل على العكس، هو يخفّف عنه التفكير في أنّه سيختفي تمامًا. وأن يكون لا أدريّ يُسهّل عليه فكرة الموت، والمنظور إلى الفناء يصبح مستساغًا، وخاصّة في لحظات التناقض والإحباط.

إنّ الحوار الساحر والفاتن يأتي ويذهب ويتحرّك، وينسج من مضامين الموضوعات أحد تلك العناصر الّتي - مثل النمر والمرآة - استُخْدِمت كثيرًا، وبهذه الأصالة الّتي بدت له، والّتي يُطْلَق عليها اسم ’متاهة‘. إنّ فكرة أنّ بورخيس نشأ في باليرمو مع أبناء المهاجرين، ومع الأطفال السيّئين في الأزقّة، ومع مغنّي المولينغا في الهواء الطلق، محض افتراء؛ فقد اخترع ذلك لاحقًا، والحقيقة أنّه نشأ في مكتبة والده، وتشبّع من الكتب الإنجليزيّة. نعم، قرأ بورخيس كثيرًا، إلّا أنّ قراءاته للرواية كانت قليلة، وعلى الرغم من أنّه بالغ في ذمّ  - يبدو أنّه قام بذلك فعلًا - الجنس الروائيّ، إلّا أنّ الحقيقة هي أنّ مؤلّفيه المفضّلين هم الشعراء وكتّاب المقالة وكتّاب القصّة القصيرة. ومع ذلك، يُعْتبَر كونراد أحد الروائيّين القلائل الّذين أُنْقِذوا من محرقته. هل تكتب شيئًا؟ نعم، قصيدة بعنوان «شاعر مغمور من نصف الكرة الجنوبيّ». بالطبع فإنّ الشاعر المغمور هو نفسه. طبعًا. إلّا أنّ كلينا، أنا وهو، يعرف بأنّه يهذي.

وداعًا بورخيس، أيّها الكاتب العظيم، والعجوز المرواغ. وإذا كان الكتّاب المشهورون يشيخون بشكل سيّئ، ويغلب عليهم طابع التكبّر والعجرفة، وكانوا مليئين بالعلل والأسقام، فإنّك، يا بورخيس، تحافظ على هيئتك. أمّا فخاخ الحكمة والروائع الّتي تملأ قصصك، فإنّك توضّحها لنا الآن في حديثك؛ لنواصل السقوط فيها بالسعادة نفسها.

 


 

بارغاس يوسا

 

 

 

روائيّ وكاتب وسياسيّ وصحافيّ وأستاذ جامعيّ بيروفيّ. يعدّ من أبرز روائيّي أمريكا اللاتينيّة وصحافيّيها، وحاصل على «جائزة نوبل» في الأدب عام 2010.

التعليقات